القائمة الرئيسية

الصفحات

 




بسم الله الرحمن الرحيم

عمل سيدنا داود وابنه سيدنا سليمان ـ عليهما السلام، عمل الأنبياء الملوك

لنا فيهما عليهما السلام العبرة والعظة، فلم يتكبر سيدنا داود على العمل، وأدرك أن للعمل مكانته، وله بركته في الصحة، وقد روي في عمل سيدنا داود عَنْ الْمِقْدَامِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِ السَّلَام ـ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ." صحيح البخاري» كتاب البيوع» باب كسب الرجل وعمله بيده

ولقد ورد ذكرهما عليهما السلام في القرآن يقول تعالى: " وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) سبأ

ومعنى قدر في السرد: أَحْكِم صَنعتك في نسج الدّروع، ومعنى سابغات جمع سابغة: دروع واسِعَة طويلة واقية.

وجُمِع سرد الدروع مع طولها وكمال تغطيتها لجسم المحارب بسبب أن الجسم فيه مناطق ثابتة ومفاصل متحركة، فالدروع الطويلة ستغطي المناطق الثابتة، والدروع المنسوجة ستغطي المفاصل وستسمح لها بالحركة، لذلك وصف السرد أو النسج بأنه مقدّر، ومعنى ذلك أنه سيراعي الحركة، ولن يضيق عليها، فحماية المقاتل مع حيوية حركته هما أمران لا غنًى عنهما في الحرب.

ولما امتلك مُلك سيدنا داود عليه السلام قمة التقنية العسكرية أمروا بعمل الصالحات، يقول تعالى: "أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"، والسلاح سبيل لتحقيق الحق ونصرة الضعيف، أو سبيل للفساد والطغيان.

والقارئ في تاريخ بلاد الشام القديم يجدها تكونت من ممالك متعددة، وسكنتها شعوب مختلفة، وقد أمر الله نبيه داود عليه السلام أن يعمل صالحا بما آتاه، فالملوك أصحاب الجيوش والسلاح يقومون بالغزو وتوسيع الملك، وذلك ما لا يجوز في حقّ ملك نبي، بل عليه أن يرفع راية الحق، ويسعى في مصالح الناس.

ومعنى "اعملوا صالحا" أي: لا تغرنكم قوتكم فتطغوا، بل فليكن حالكم في عملكم حال الصالحين، فكلمة "صالحا" هي حال الفعل "اعملوا".

ومن معاني الصلاح: الإحسان إلى الناس، فلا تصيبهم الرهبة من السلاح، فبدل الخوف تكون المودة، ومن معانيها كذلك إقامة الحال المنكسرة، ومن معانيها نشر الفضل والخير بين الناس.

أما قوله تعالى: "إني بما تعملون بصير" فيعني: أنهم يصلحون ومن وراء ذلك مقصد ونية، وهي: ابتغاء ما عند الله، الذي يبصر ما يعملون، وهو سبحانه يجازيهم عليه، ويعني هذا أن ملك سيدنا داود ـ عليه السلام ـ سينشئ حضارته من أصل قوي متين إلى أن يبلغ الرفاهية، فالمال عند ذلك سيكون متوفرا، الأمر الذي يسمح بإنشاء المظاهر الحضارية دون الضغط على البلاد. 

هذا عن نبي الله داود ـ عليه السلام، والآيات التالية هي عن ابنه سيدنا سليمان ـ عليه السلام:

فقد يسّر الله تعالى على آل داود، بما سخر لسيدنا سليمان ـ عليه السلام، فيسّر السفر، وجعله بالريح، ويسر الصناعة، فبدل الأفران لإذابة النحاس إذ بالمولى يسيله لنبيه سليمان ـ عليه السلام، ويسّر المسكن والمأكل، وذلك بما صنعته الجن، فالجندي قد تفرغت طاقته لتدريبات القتال، وعامل السلطان يجد راحته بعد تعبه، ولا يشقى بخدمة نفسه بعد عمله وكَدِّه، فالجن صنعت المسكن وجملته، وصنعت للطعام أدوات عظيمة تغطي احتياجات الدولة مهما زادت أعداد جنودها ورجالها.

ولما تيسرت على آل داود شؤونهم، فقد أمرهم الله تعالى بالشكر، فيفيضوا من نبعهم على الناس، وينشروا الخير لهم ولغيرهم، ويستثمروا الآيات والنعم حاملين الخير للناس.

" وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ":

ورد في تفسير ابن كثير: قال الحسن البصري: كان يغدو على بساطه من دمشق فينزل بإصطخر يتغذى بها، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل، وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع، وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع.

معنى الرواح: ذَهَبَ أو جَاءَ فِي الرَّوَاحِ، أي العَشِيِّ. العشي: الوقت من المغرب إلى العشاء. ومعنى الغُدْوَةُ: الغَداة، وقت ما بين الفجر وطلوع الشَّمس، الغُدْوة والرَّوحة.

"يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ"

ورد في لسان العرب مادة مثل: وَالتِّمْثَالُ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمَصْنُوعِ مُشَبَّهًا بِخَلْقٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَالْمِحْرَابُ: صَدْرُ الْبَيْتِ، وَأَكْرَمُ مَوْضِعٍ فِيهِ، وَالْجَمْعُ الْمَحَارِيبُ، وَهُوَ أَيْضًا الْغُرْفَةُ.

ورد في تفسير ابن كثير:

والقدور الراسيات: أي الثابتات، في أماكنها لا تتحول ولا تتحرك عن أماكنها لعظمها. وقال مجاهد: المحاريب بنيان دون القصور. وقال الضحاك: هي المساجد. وقال قتادة: هي المساجد والقصور، وقال ابن زيد: هي المساكن. وأما التماثيل فقال عطية العوفي، والضحاك والسدي: التماثيل: الصور. قال مجاهد: وكانت من نحاس. وقال قتادة: من طين وزجاج.

ورد في قاموس المعاني: الجَوْبة: الحُفْرة المستديرة الواسعة، الجَفْنة: القَصعة.

ومعنى "اعملوا آل داود شكرا" أن الله تعالى أنعم عليهم بكل هذه النعم، لتتيسر لهم شؤون النقل: وذلك أن الريح مسخرة للملك سيدنا سليمان ـ عليه السلام، وتيسرت الصناعة بإسالة النحاس، وتيسر للجند وعمال السلطان شأنهم فسكنوا وطعموا بما صنعته الجن، إذن فليجيبوا الله تعالى بأن ينشروا الفضل والخير بين الخلق.

وهذا هو قوله تعالى "اعملوا آل داود شكرا" يقول بذلك، وقد ورد في قاموس لسان العرب: الشُّكْرُ: عِرْفانُ الإِحسان ونَشْرُه، شَكَرَتِ الإِبل تَشْكُر إِذا أَصابت مَرْعًى فَسَمِنَتْ عليه، فالشكر ليس عرفان الإحسان وحسب بل نشره كذلك. 

تعليقات