بسم الله
الرحمن الرحيم
السمع والبصيرة
الجزء الثالث: البصيرة
والبصيرة هي بصر القلب، فكم من مبصر
لا بصر له! أو قل لا بصيرة له! وهي تميز الإنسان عن بقية الخلق، فكل الخلق لهم
عيون، إلا أن الإنسان هو الذي يعقل من وراء ما يبصر...
في لسان العرب: والبصيرة: الحجة
والاستبصار في الشيء، والبصيرة: عقيدة القلب. قال الليث: البصيرة
اسم لما اعتقد في القلب من الدين وتحقيق الأمر، تقول العرب: أعمى الله بصائره أي
فطنه، وفي حديث ابن عباس أن معاوية لما
قال لهم: يا بني
هاشم، تصابون في أبصاركم، قالوا له: وأنتم يا بني
أمية تصابون
في بصائركم.
فالبصيرة هي صدق الاعتقاد فيما يعرض
من الأحداث وفيما هو ظاهر من الحقائق، فكأن السمع هو للاستقبال، والبصيرة لإعمال
الفهم فيما هو كائن في الحياة، وهذا هو الفرق بين السمع والبصر الحسيين، فالبصر
يرى ما هو موجود ليعي عنه، أما السمع فهو يفهم من الذي يُوَجَّه إليه من الحديث، والبصيرة
كذلك للمادي من الأشياء كنبت وأرض وسماء، أو للمعنوي من الأمور كالتاريخ والأحداث
العامة والخاصة.
فالبصيرة كما نقلنا هي نفاذ القلب،
يقول تعالى: "فَكَأَيِّن
مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ
عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (45) أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ
يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)" الحج. فالقلب حينما يرى الحقيقة يقع
فيه التصديق، وهذا هو نفاذه، إذ أنه يتخطى ما هو ظاهر إلى معاني الباطن، وهذا هو
معنى بصر القلب الوارد في الآية، فالقلب يبصر حين يقع التصديق فيه بعد مداولة
الأمر أو الآية موضع النظر.
وتخصيص القلب بالذكر؛ لأن أحداث
الحياة من اندثار الأمم وهلكة الأقوام أو الخسف بالمتجبرين هي أمور شديدة، لا تقف
عند العقل وفكرته، بل تضرب بأثرها إلى القلب، فتهز كيان الإنسان، وتؤثر في قلبه
وتطبع فيه، فهذه العبرة ليست كبقية العلوم والمعارف.
فالقلب يبصر حينما يدرك العبر
والعظات، وهذا من معنى البصيرة إذ أنه إدراك يفوق إدراك ظواهر الأمور.
وفي الآية ذكر وارد للسمع؛ إذ أنه
قرين البصر، وورد ذكره مع ذكر هلاك الأمم، فيتعظ الرجل مما يسمع أي يعقل ويعتبر،
فيبتعد الرجل عن العادات والأخلاق السيئة التي سببت هذا الهلاك.
تمثيل للبصائر؛ نمثل بمثالين أحدهما
عن الكون والآخر مثال معنوي:
الأول: قال تعالى: "إِنَّ
اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ ۖ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ
(95)"الأنعام.
يقول العلماء في الإعجاز العلمي في
هذه الآية:
للبذور النباتية اسمان متمايزان
(الحب والنوى)، والحبوب معروفة أما النوى فهي البذور التي لها قدر من الصلابة.
وأيا كانت طبيعة غلاف البذرة رقيقة، أو سميكة فإن الله تعالى قد أعطي للجنين
الكامن بداخلها القدرة على شقها وفلقها بمجرد توافر الشروط اللازمة لإنباته، وذلك
من أجل تيسير خروج النبتة في عملية معجزة تعرف باسم عملية إنبات البذور.
والبذور تحوي الأجنة في حالة من
السكون، والجنين يشغل حيزا ضئيلا جدا من حجم البذرة، أما باقي حجمها فيتكون من
مواد غذائية غير حية مكتنزة يحتاج إليها الجنين في مراحل إنباته الأولي، ويغلف
البذرة بما فيها من الجنين والمواد الغذائية المكتنزة عدد من الأغلفة اللازمة
لحمايتها.
عند توافر كل من الشروط الداخلية
والخارجية للإنبات تبدأ البذرة بامتصاص الماء، والانتفاخ لزيادة حجمها، وحينئذ
تبدأ في داخل البذرة سلسلة معقدة من عمليات البناء والهدم التي تعين الجنين على
التحرك بالنمو بعد فترة السكون التام التي عاشها وهو كامن في داخل البذرة الجافة،
فيبدأ بالإنبات ليعيد دورة حياة النبتة الأم من جديد.
والجنين في البذرة في حالة سكون، ثم يَنْبِتُ
حيا، وهذا هو إخراج الحي من الميت، فالجنين كان ساكنا ثم نبت وتحرك، وهنا نرجع
للآية التي معنا فنرى أن الله تعالى يقول: "إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ
وَالنَّوَىٰ ۖ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ
الْحَيِّ"، فالحي الذي خرج هو الجنين النابت، والميت الذي يخرج من الحي هي
الأجنة في البذور التي تنبت مجددا من النبات.
وختام الآية هو: "ذلكم الله
فأنى تؤفكون"، فمن يستطيع أن يبدع مثل هذا الذي ذكرناه إلا الله ـ عز وجل ـ خالق
السماوات والأرض، فهذه من الآيات التي تتحدث بحجة دامغة أن الله هو وحده القادر أن
يخلق مثل هذا الخلق كإنبات الزرع، وترد على كل مشكك في الإيمان به وعبادته ـ جل
وعلا، وتبرز تعاليه وتنزيهه سبحانه عن الشركاء الذين دعاهم المشركون آلهة وجعلوهم
أندادا له تعالى، فانظر مدى جهلهم وجهالتهم، فأنى يؤفك هؤلاء عن عبادة الله إلى
عبادة غيره مما لا يقدر على مثل ذلك، فتؤفكون بمعنى تصرفون، أي يصرف عن عبادة الله
إلى غيره.
المثال الثاني:
يقول تعالى في سورة الأنعام كذلك:
"وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ۖ وَخَرَقُوا لَهُ
بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ
(100)".
وهذه الآية تعبر عن بصيرة ثاقبة، وأول ما جاء فيها؛ أنهم ادعوا لله
شركاء من الجن، وردَّ الله عليهم بأنه سبحانه وتعالى هو من خلقهم، فهو الذي هيأهم،
وهيأ فيهم الحواس التي تشعرهم بكل ما يدركوه ويعرفوه، ولذلك فالله سبحانه وتعالى
أدرى بما يعلمونه من أنفسهم، فكيف لخالق أداة الكشف ألا يعلم ما علمته تلك الأداة!
بل إن ربوبيته تعني أنه محيط بكل شيء، وهو سبحانه القادر، فكيف إذاً سيحتاج الله
إليهم في خلقه، وهو يعلم ما يعلمونه!!
هذا عن العلم، فماذا عن القدرة؟ فكما أن الله خلق حواسهم، فقد خلق
الله أيديهم وأعضائهم التي تعطيهم تلك القدرة، فكيف لخالق أداة القدرة ألا يكون
عنده من القدرة ما هو أعظم منها! وتتضح قدرة الله العظيمة تلك في آيات جليلة كمثل الشمس
والقمر والنهر والبحر، فكيف لمخلوق أن يشارك خالقه!
فليس لله حاجة لمن خلقه يعينه في خلقه، بل هو الله لا إله إلا هو له
الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وعن ادعائهم أن لله سبحانه بنين وبنات؛
ورد في لسان العرب: وَخَرَقَ
الْكَذِبَ وَتَخَرَّقَهُ وَخَرَّقَهُ، كُلُّهُ: اخْتَلَقَهُ; قَالَ اللَّهُ -
عَزَّ وَجَلَّ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ.
فالله سبحانه وتعالى لا يحق في شأنه ما يحق في شأن العباد، فهو لم يلد
ولم يولد، ولم تكن له صاحبة، وكذلك فالله ليس له ابن أو بنت، ولو أراد ذلك لاصطفى
مما يخلق ما يشاء، فلا يحق في شأن ذاته العلية، ما يحق في شؤون الخلق.
ولذلك كان ختام الآية بالتنزيه، يقول تعالى في الختام: "سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ"، فهو سبحانه تعالى وتنزه عن الشرك، وتعالى أن
يلد أو أن يولد، أو أن تكون له صاحبة.
تعليقات
إرسال تعليق