حَسْبُنَا
الله ونِعْمَ الوكيل
الجزء الثاني
بسم الله
الرحمن الرحيم
كنا قد تحدثنا
كيف انقسمت النصارى لأحزاب، ولكن لا يتوقف الأمر على النصارى؛ ففي عصرنا ظهرت
مذاهب فكرية منها ما أنكر الإيمان بالله وكتبه ورسله ـ صلى الله عليهم وسلم
أجمعين، ولعل من أبرز وأشهر هذه المذاهب هي الشيوعية…
وهذا المذهب
هناك ممن يتبعه من ينكر الدين أصلا، وذلك مما يشار إليه باسم الإلحاد العلمي
الماركسي اللينيني، وهو نوع من الفلسفة الماركسية التي وجدت في الاتحاد السوفيتي،
الذي كان لادينيا ومعاديا لرجال الدين، بينما في الوقت نفسه تدعو إلى النظرة
المادية في فهم الطبيعة، بحسب الماركسية ـ اللينينية فإن الدين هو أفيون الشعب،
بمعنى أنه يحض على القبول السلبي للمعاناة على الأرض أملا في الثواب بالآخرة،
ولذلك تدعو الماركسية ـ اللينينية إلى إلغاء الدين وقبول الإلحاد.
أما عن ماركس
فيلسوف الشيوعية فقد انحاز إلى الفكر المادي ورفض الدين.
فأتباع هذا
المذهب ينكرون الدين، إذ يعتبرون الابتلاء والرضا والصبر أفيون الشعوب، وينظرون
للوجود نظرة مادية تنكر كل ما لا يمكن سماعه أو رؤيته، أي ينكرون الغيب.
وهؤلاء نواقص
العقل، فكيف لا يدركون من الخلق وجود الخالق!! وقد قست قلوبهم، فكيف لا يدركون
الرحمة المنزلة من السماء!! وأظلمت أبصارهم، فكيف لا يرون بنور الحكمة الموجودة في
الكتاب!! وما عادوا يدركون حقا ولا باطل، وإلا لآمنوا بالفرقان الذي أنزله الله
تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم، وفيه الفرق بين الحق والباطل.
وكيف ينكرون
الصبر والرضا وبهما تهون المصائب وتحصل الرحمات، وتخف الكربات.
والذي يدرك من
الله عطائه ورحمته في الدنيا لهو قوي الاعتقاد في الآخرة.
فالذي يُقْبِل
على الإسلام يدرك ما فيه، ومدى حاجة الناس له، فعبادة المولى جل وعلا تهدئ القلب
وتستقر بها النفس، وهي محطة يتحسن فيها الانتباه والوعي، وهذا أمر واحد مما جاء به
الدين، وهذا الدين هو جنة يقطف منها المؤمنون كل يوم طعام يقيم حالهم، ويشربون منه
شرابا يحييهم.
أما عن معنى
الفلسفة المادية، فهي؛ فلسفة تتبنى أن المادة هي المكون الأساسي للطبيعة، وأن كل
الأشياء، بما فيها الجوانب العقلانية كالوعي، هي نتاج لتفاعلات مادية.
تعتبر الفلسفة
المثالية كلا من العقل والوعي حقائق من الدرجة الأولى، ولهما تخضع المادة التي
تعتبر بدورها حقيقة من الدرجة الثانية. لكن في الفلسفة المادية يكون الأمر بالعكس.
فهنا، يعتبر العقل والوعي منتج ثانوي أو ظاهرة مصاحبة للعمليات المادية (الكيمياء
الحيوية للدماغ والجهاز العصبي على سبيل المثال) التي من دونها لن يتواجد أي
منهما. إذ وفقا لهذه الفلسفة، الماديات هي من تخلق وتحدد الوعي، وليس العكس.
وقد تجد أن
الفلسفة المادية لا تهمش العقل والوعي فحسب، بل تهمش كذلك العاطفة، فقد تجد
الفلسفة المادية تهمش الإيمان بالله، فهو قائم على الوعي والعاطفة، والله سبحانه
وتعالى غيب عنا لا ندركه بأبصارنا.
يقول تعالى في
مفتتح سورة البقرة: "الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون
بالغيب …"، ويقول تعالى في سورة ق: "مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ
بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33)"، فلا يخفى أن الله تعالى غَيْبٌ
عنا، وأن الدين نُزِّل من عالم الغيب، وأن من ينكر الغيب، فقد خرج عن الدين.
وإنكار
العاطفة والإدراك، وإنكار الرحمة والنور، فإن ذلك يؤدي إلى الخروج من حصن الدين،
والوقوع فريسة للنفس وللشيطان.
ونكران خطر
السمع والبصر وبقية الحواس هذا النكران يهيء المُنْكِر للوقوع في الآثام التي تقضي
على العمل الصحيح لهذه الحواس، أعني أن المنكر الذي لا يهتم بحواسه قد يعتاد
معاقرة الخمر وقد يدمن المخدرات.
هذا النكران
قد يوقع صاحبه في بلايا ومصائب، وكبائر وآثام، فتضطرب حياته، ويزداد سوء حاله، فلا
يستقر قلبه، ولا يصح عمله، يقول تعالى في سورة آل عمران: "إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ
شَيْئًا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)"، ويقول تعالى في نفس
السورة: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ
وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۚ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)".
فالمُنْكِر
الذي كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، هو في عذاب وأسى وحزن، ومرارة في الحياة،
وهذا مما يصيب الكفار في الدنيا قبل الآخرة.
وتسعى
الشيوعية لتأسيس نظام اجتماعي اقتصادي مبني على الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج
في ظل غياب الطبقات المجتمعية والمال ومنظومة الدولة.
وقد تجد هذا
الحلم الوردي ومثله من الأفكار التي تبدوا رائعة هو ما يرد فيه قول الله تعالى في
سورة الأنعام: "وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن
سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ (116)".
وهذه المذاهب
لم تُقَمْ على معتقد صلب، فقد تجدها أقيمت على أوهام الأحلام الوردية، فمثل هذه
الظنون لا تحكم، حتى وإن كانت خواطر يتوهمها كل الناس، ولا يحكم في الناس إلا
أصحاب الإيمان والعلم، الأبرياء من التهم الراجحون في ميزان الحكمة والعلم.
ويستمر إخبار
الآيات المذكورة في المقالة السابقة والتي يقول فيها تعالى: "وَإِنَّ اللَّهَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ۖ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ
يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ۖ لَٰكِنِ
الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (38)
وَأَنذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا
يُرْجَعُونَ (40)". مريم
يرد في تفسير
الطبري عن قتادة، عند قول الله تعالى والموجود في مجموعة الآيات التي ذكرناها:
"فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ" شهدوا
هولا إذا عظيما.
ولعل كلمات
قتادة تتوافق مع القول القائل بأن أصحاب الكفر والفجور يلاقون الهول والمصائب في
الدنيا والآخرة، وقد قال تعالى: "إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ
الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ". الانفطار: 13، 14
ليس فقط نَعيم
الآخرة وجحيمها؛ بل في دُورهم الثلاث: الدنيا، والبرزخ، والآخرة، فهؤلاء في نَعيم
وهؤلاء في جحيم.
والناظر يجد أن الشيوعية انهارت، فما بال المغالين من أتباعها الذين أنكروا الدين، وهم يسيرون في سبيلهم هذا، ما بالهم بعد انهيارها!! كيف سيعيشون وقد رأوا ما آمنوا به وهو لم يعد يسمن أو يغني من جوع!! وفي الماضي القريب كانوا مسيدين على عرش من عروش الدنيا!! فذلك جزاء الكافرين في الدنيا، قبل الآخرة.
تعليقات
إرسال تعليق