حَسْبُنَا
الله ونِعْمَ الوكيل
الجزء الأول
بسم الله
الرحمن الرحيم
الله ربنا
يكفينا عما سواه، وهو وكيلنا نعتمد عليه في قضاء حوائجنا فتقضى بإذنه، وندعوه نطلب
النفع فينفعنا، ونطلب رفع الضر فيرتفع، وهو الرفيق في السفر والخليفة في الأهل
والولد، فمن كان الله سبحانه وتعالى ربه، فهو في غير حاجة لغيره، ومن يتوكل على
الله فهو حسبه، إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرا.
يقول تعالى في
سورة مريم: "وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا
صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ۖ فَوَيْلٌ
لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ۖ لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ
مُّبِينٍ (38) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ
قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ
نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)"
وتتحدث الآيات
عن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، ودعوته لقومه بالتوحيد، أن الله سبحانه
وتعالى ربه وربهم، وهو وحده مستحق العبادة، وهذا هو الحق الصريح.
وتبتدئ الآيات
بالتأكيد على ذلك، فالله هو ربنا الذي خلقنا ورزقنا، فالرب تعني: المالك المدبر
وهو الله تعالى، وتقول رَبَّ النِّعْمَةَ: حَفِظَها ونمَّاها، ورَبَّ القَوْمَ:
كَانَ رَئِيسَهُمْ وَسَائِسَهُمْ، ورَبَّ الولدَ: ولِيَه وتعهده بما يغذيه وينميه
ويؤدّبه.
فمعنى أن الله
تعالى هو ربنا أي هو الذي خلقنا، ولم نكن شيئا مذكورا، وبعد أن خلقنا تعهدنا
بالرعاية فرزقنا بالطعام والشراب، وجعل لنا الملابس وتأتي أليافها من الحيوان
والنبات ومن النفط الذي يخرج من باطن الأرض، وسخّر لنا الأنعام التي نأكلها
ونركبها، وهذا كله من فضل الله تعالى، ودليل ربوبيته ورعايته.
وهو سبحانه
مستحق العبادة، ذلك لأنه الخالق الرازق، وهذه العبادة تفتح باب النور الذي يهدي
العباد في حياتهم، ويدلهم على أبواب الخير، لما فيه صالحهم وصالح غيرهم.
وعن معنى
العبادة يرد في لسان العرب: وأَصل العُبودِيَّة الخُضوع والتذلُّل. العبد:
الإِنسان، حرّاً كان أَو رقيقاً، يُذْهَبُ بذلك إِلى أَنه مربوب لباريه
وورد كذلك في
لسان العرب: وَقِيلَ: عَبِدَ: غَضِبَ وَأَنِفَ، وَعَبِدَ بِهِ: لَزِمَهُ فَلَمْ
يُفَارِقْهُ، وورد في غيره: عَبِدَ عَلَى نَفْسِهِ: لاَمَهَا، عَبِدَ مَا قَالَهُ:
أَنْكَرَهُ.
وهذه المعاني
تدور حول معنى الانشغال مع الاهتمام وإعمال انظر، فالغضب والملل يكون لسبب كمثل
طول الانتظار بلا أي مبرر، وحصول الاهتمام مع سوء العاقبة، والإنسان يلوم نفسه حين
يفكّر في صنيعه ويدرك خطأه، والرجل يدرك العلة في كلام غيره فينكره، إذا أطال
الانشغال به، وربما كان معنى كلمة عبد به أي لزمه هو معنى صريح في الإخبار بذلك.
فمعنى العبادة
الانشغال، والانشغال بالله تعالى يزيد العلم والتعلق به، ولا ينكره منكر، ولا يجحد
به جاحد، فالله تعالى صاحب الرفعة والعزة وله الأسماء الحسنى، فالانشغال به أو
عبادته تزيد من معرفته وحبه تعالى، أما الخلق فنواقص وأصحاب علل، فالانشغال بهم
يقود لنكرانهم.
وهذا صراط
مستقيم، فالإنسان يَقْبَل عبادة من خلقه، ويُقْبِل على عبادة الله سبحانه وتعالى،
لأنه يجد فيها الخير لقلبه ونفسه، وبها يستقيم حاله وتنضبط حياته، أما ما يعتقده
بعض الناس من ديانات كفرية أو شركية، كمثل عبادة الشمس والقمر أو عبادة الجن أو
عبادة الأصنام والأوثان فلا يستقيم ولا ينصلح، وعبادة خالق السماوات والأرض هي
الصراط المستقيم.
والآن نتوقف
مع الآية التالية ويرد عنها في تفسير الطبري: عن قتادة، قوله: "فَاخْتَلَفَ
الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ"؛ ذُكر
لنا أن لما رُفع ابن مريم، انتخبت بنو إسرائيل أربعة من فقهائهم، فقالوا للأوّل:
ما تقول في عيسى؟ قال: هو الله هبط إلى الأرض، فخلق ما خلق، وأحيا ما أحيا، ثم
صَعِد إلى السماء، فتابعه على ذلك ناس من الناس، فكانت اليعقوبية من النصارى؛ وقال
الثلاثة الآخرون: نشهد أنك كاذب، فقالوا للثاني: ما تقول في عيسى؟ قال: هو ابن
الله، فتابعه على ذلك ناس من الناس، فكانت النَّسطورية من النصارى؛ وقال الاثنان
الآخران: نشهد أنك كاذب، فقالوا للثالث: ما تقول في عيسى؟ قال: هو إله، وأمه إله،
والله إله، فتابعه على ذلك ناس من الناس، فكانت الإسرائيلية من النصارى، فقال
الرابع: أشهد أنك كاذب، ولكنه عبد الله ورسوله، هو كلمة الله وروحه! فاختصم القوم،
فقال المرء المسلم: أنشدُكم الله ما تعلمون أن عيسى كان يَطعم الطعام، وأن الله
تبارك وتعالى: لا يطعم الطعام قالوا: اللهمّ نعم، قال: هل تعلمون أن عيسى كان
ينام؟ قالوا: اللهمّ نعم، قال فخصمهم المسلم؛ قال: فاقتتل القوم. قال: فذُكر لنا
أن اليعقوبية ظهرت يومئذ وأصيب المسلمون، فأنـزل الله في ذلك القرآن إِنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ
حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
ولقد نفى
القرآن ربوبية سيدنا عيسى عليه السلام وأمه السيدة مريم في قول الله تعالى:
"وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ
اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا
يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ
ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ
فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ
عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)". المائدة
فالله تعالى
هو وحده مستحق العبادة، فهو رب الخلق، وكلنا له عباد، والأنبياء والمرسلون هم
عباد، لا يتجاوزون خط عبوديتهم لله، فهم في ضعف وحاجة.
تعليقات
إرسال تعليق