ملك سيدنا سليمان عليه السلام الجزء الرابع
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول تعالى في آيات تخبر عن هذا الملك: "وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ
الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا
عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
(18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ
أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ
الصَّالِحِينَ (19)".
ومعنى "وحشر لسليمان جنوده" أي جمعوا.
أما معنى
يوزعون: يحبس أولهم على آخرهم، أي: توقف سلاف العسكر حتى تلحقهم التوالي فيكونوا
مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وذلك للكثرة العظيمة. فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب
(حاشية الطيبي على الكشاف)، المجلد 11، الصفحة، 483
ويرد في نفس
المصدر؛ يُوزَعُونَ: إشارةٌ إلى أنهم مع كثرتهم وتفاوتهم لم يكونوا مهملين ومبعدين
كما يكون الجيش الكثير المتأذي بمعرتهم، بل كانوا مسوسين ومقموعين.
ومعنى مَعَرَّة الجيْش: أَن ينزلوا بقوم فيأْكلوا من زرْعِهم وأَموالِهم
بما لم يؤذنْ لهم فيه، وهذا هو أذى الجيش الذي لابد من كفه، وقد تجد أن جند سيدنا
سليمان عليه السلام قد وزعوا عنه، ومعنى وزَعَ الظَّالمَ: زجَره ونهاه.
فللجند مهمة غاية في الشرف والنبل وهي الجهاد في سبيل الله تعالى، وفي هذا
الطريق تبذل الدماء والأموال، ولهذا فمن يدرك هذه الحقيقة منهم فهو في رضوان الله
تعالى، وهو صادق يبذل الغالي والنفيس فداء لدينه وأمته ووطنه، والجندي المخلص لا
ينسى مهمته، ولا ينبذ واجبه وراء ظهره، أما جيوش الباطل فهي تحارب من أجل الثروة
وتوسيع النفوذ، كما كانت تحارب دول الاستعمار التي كانت قد احتلت الدول.
أما عن لغة النمل، فقد أدرك العلم الحديث أن النمل يتواصل من خلال الروائح؛
فقد اكتشف العلماء أن للنمل لغات تفاهم خاصة بينها، وذلك من خلال الروائح، والرائحة
تتكون من مواد كيماوية أطلق عليها العلماء اسم "فرمونات".
والنمل يتميز برائحة خاصة تدل على العش الذي ينتمي إليه، والوظيفة التي
تؤديها كل نملة في هذا العش، وحينما تلتقي نملتان فإنهما تستخدمان قرون الاستشعار،
وهي الأعضاء الخاصة بالشم، لتعرف الواحدة الأخرى.
كما أن دماغ النمل قادر على التذكر والتعلم.
ورد في تفسير القرطبي: ظهر إيمان النملة في قولها: "لا يحطمنكم سليمان
وجنوده وهم لا يشعرون"، فقولها: "وهم لا يشعرون" التفاتة مؤمن، أي
من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا،
وقولها: "وهم لا يشعرون" إشارة إلى الدين والعدل والرأفة.
والذي أَسَرَّ نبي الله سليمان عليه السلام هو ما رآه من صدق العلم الذي
تعلمه، وسُرَّ به ظاهرا في كلمات تلك النملة خاصة وأنها أحسنت الظن به وبجنده، فلم
ينفر منها وتقبلها، فالرجل يستزيد ممن يحب، ولا يقبل بمن يتكبر أو يؤذي.
أما عن قوله تعالى: "فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ
أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ
الصَّالِحِينَ (19)".
ورد في تفسير
الطبري: "أوْزِعْني": ألهمني وحرّضني على أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ
وعلى والديّ.
ورد في لسان
العرب في مادة "وزع"؛ الْوَزْعُ: كَفُّ النَّفْسِ عَنْ هَوَاهَا. وَزَعَهُ:
كَفَّهُ. وَالْوَازِعُ فِي الْحَرْبِ: الْمُوَكَّلُ بِالصُّفُوفِ يَزَعُ مَنْ
تَقَدَّمَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ.
وهذه المعاني
تشير إلى الطريق الذي يسير فيه الإنسان ليكون شاكرا لنعمة الله تعالى، وهذا الطريق
لابد للرجل فيه من كفّ نفسه عن هواها، فإن هو اتبع هواه ضيع حياته، ونسي نعم الله
عليه، بل كان حاله مشتتا، لا يدرك للحياة معنى، فمعنى قوله تعالى: "رب أوزعني
أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ"؛ أي اكْفُفْنِي عن الباطل
ليستقيم حالي وأتبع الحق وأشكر نعمتك، وكذلك يلهم الرجل الشكر، بالكف عن الهوى.
أما عن العلاقة
بين معنى أوزعني أي ألهمني شكرك، وبين وازع الجيش الذي يصفهم ويمنعهم من الاضطراب
والتفرق، أن الإنسان الذي يُوزَع للصلاح أمره منضبط، أي أنه ينظم عمله وما يصلح
شأنه على ساعات يومه وليلته، وهناك نظام أقره يخضع عمله له، وهو في ذلك يراعي حاجة
جسده وقلبه ونفسه، فلا يقسو على نفسه، فشأنه معتدل بلا إفراط ولا تفريط.
ودلالة قوله
تعالى على لسان سيدنا سليمان عليه السلام: "رب أوزعني أن أشكر نعمتك":
فهذه النعم لم تكن استثناءات بل كانت مسخرة له عليه السلام، ولهذا دعا الله بأن
يوزعه أن يشكره عليها، فيستزيد منها ويفيد الخلق.
ولقد ورث سيدنا
سليمان عليه السلام والده، ويبدو أن والداه حرصا على أن يتربى على العلم والإيمان،
ولهذا قال "ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي"، فما
أنعم الله تعالى على والداه قد انتقل إليه عليه السلام، وكذلك فللأم النصيب الكبير
في نشأة ولدها، فهي تنقل أخلاقها ومعرفتها لأبنائها، أو كما قال الشاعر؛
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
ولم يزل والداه
يؤجرا بهذا الميراث حتى بعد وفاتهما، وقد روي في ذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: "إِذَا مَاتَ
الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ إِلَّا مِنْ
صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو
لَهُ". شرح
النووي على مسلم » كتاب الوصية » باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، 1631
فوالداه عليه السلام يؤجرا بصلاحه ودعائه، والعلم الذي نشروه وعلموه، وكذلك
نقلوه لأبنائهم، ولسيدنا سليمان عليه السلام، وذلك باق لهما بعد وفاتهما.
أما عن قوله
تعالى: "وأن أعمل صالحا ترضاه": فقد ورد؛
قَالَ
الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ
صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ
يُقْبَلْ، حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا فَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ،
وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ: {فَمَنْ
كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}. إعلام الموقعين عن رب العالمين» كتاب عمر في القضاء وشرحه» فصل إخلاص
النية لله تعالى» فصل أعمال العباد
أما معنى:
"وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" أي؛ أصلح لي شأن نفسي وقلبي، فينصلح
عملي، ويزكو عملي ويصح لساني، ويكون ذلك بالشفاء من الفتن ومغفرة الذنوب وتكفير
السيئات، وذلك أجدر بأن يجعله مع العباد الصالحين الذين طابت قلوبهم ونفوسهم
واستنارت بصائرهم.
تعليقات
إرسال تعليق