ملك نبي الله
سليمان عليه السلام الجزء الثالث
بسم الله الرحمن
الرحيم
يقول الله تعالى
في سورة النمل حيث ورد ذكر نبي الله سليمان عليه السلام وصفات ملكه: "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ۖ
وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ
الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ
وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ
شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)".
ورد في تفسير القرطبي عن سيدنا سليمان عليه السلام والطير أنه قد صاحت
خطافة عنده، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: قدموا خيرا تجدوه.
وفي مثل ذلك يحسن ذكر قول الله تعالى في سورة القصص: "وَمَا أُوتِيتُم
مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ
خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا
حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ
هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)".
فالرجل يعمل الخير، وهو ينتظر من الله سبحانه وتعالى عاقبة ما يصنع، ويتوكل
على الله تعالى ويصبر لكي ينال حسنة في الدنيا وفي الآخرة، والرجل ينتظر من الله
العاقبة الحسنة لعمله في الدنيا، فتراه لا يسأل الخلق، ولا ينتظر منهم، بل ينتظر
من الله سبحانه وتعالى، ويثاب العبد على إخلاصه في عمله الأمن والطمأنينة والسلام،
وفي ذلك صلاح نفسه وقلبه، وهو كذلك ينال من نعيم الدنيا الذي قدره الله تعالى
للمؤمن، هذا النعيم الذي لا يشترى بالمال، فكأن نفحة من نعيم الآخرة أصابته.
ففي الدنيا سبيلان؛ سبيل لأن يطلب الرجل ما
عند الله تعالى بطاعته وإخلاص العمل له تعالى، والعاقبة أن تصيبه الجنة بنفحاتها، والله
تعالى قد قدّر الأرزاق لمن يَجِدُّ ويسعى.
أما السبيل الآخر فهو سبيل الانشغال بالدنيا؛ فصاحب الدنيا منشغل عن الطاعة
بالمال وإصلاحه، وقد تجد المال ههنا سبب للشقاء في الدنيا، ولا ينال صاحب الدنيا
إلا طعاما وشرابا وسكنا، وهو لا يدرك نعيم الطاعة وسكينتها واطمئنانها، وهو لا
يدرك ما يجلبه الإخلاص والطاعة للمؤمن.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ،
وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ
رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي
الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ". سنن ابن ماجه»
كتاب التجارات» باب الاقتصاد في طلب المعيشة، 2144
ولكي نفهم معنى الحديث الشريف وجب علينا أن نعي معنى كلمة:
"أجملوا"، ورد في لسان العرب:
وَأَجْمَلْتُ الصَّنِيعَةَ عِنْدَ فُلَانٍ، وَأَجْمَلَ فِي صَنِيعِهِ،
وَأَجْمَلَ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ: اتَّأَدَ وَاعْتَدَلَ، فَلَمْ يُفْرِطْ؛ قَالَ: الرِّزْقُ
مَقْسُومٌ فَأَجْمِلْ فِي الطَّلَبِ.
فالناس تجري وراء الدنيا، ولن تصيب منها إلا ما كتب لها، فمادام الرزق
مقسوم كان على الإنسان أن يتمهل ويتئد في طلب الرزق، وهذا من التقوى، فالاعتدال في
طلب الرزق يورث الأمان والاطمئنان في الصدر، بينما التعجل والإفراط في طلب الرزق
يؤذي الإنسان بالتوتر والهمّ والغم، فالإجمال في طلب الرزق من التقوى، ففيه اتقاء
لهذا الأذى.
وعلى الإنسان أن يطمئن أن ما يقدمه من خير فسوف يجده، فالرزق حاصل للرجل
مادام هو يسعى ويجد، حتى وإن أبطأ الرزق عنه، كما قالت الخطافة: قدموا خيرا تجدوه.
أما عن قوله تعالى إن هذا لهو الفضل المبين في الآية التي يقول فيها الله
تعالى: " وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ
وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن
كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)"، فقد يقصد أن
ما بين يديه من آيات هو واضح له ليس بمستتر، بل هو واقع حيّ، يراه كما يرى نور
النهار، وأن ما تعلمه بفضل الله تعالى قد أوصله لحقائق بينة، فبعد أن كانت أثرا،
صارت حقيقة فعالة.
وذلك كمثل العلوم في عصرنا، فقد غيرت العصر باكتشافاتها، وأوصلتنا للحقائق
التي تُسَيِّر عالمنا اليوم، كمثل اكتشافات الكهرباء والمغناطيسية، وهذه الأمور لا
ترى، إلا أن حقيقتها لا تنكر، وهي محسوسة ملموسة لكل من يعمل بها، فيمكن القول
إننا نعيش في الفضل المبين من الله جل جلاله.
تعليقات
إرسال تعليق