القائمة الرئيسية

الصفحات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الشكر والكفر.  الجزء الثاني: الكفر

معنى كفر

عَنْ جَابِرٍ، عَنْ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: "مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً، فَوَجَدَ، فَلْيَجْزِ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَلْيُثْنِ، فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى، فَقَدْ شَكَرَ، وَمَنْ كَتَمَ، فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطَهُ كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ"، وَمَعْنَى قَوْلِهِ "وَمَنْ كَتَمَ فَقَدْ كَفَرَ" يَقُولُ: قَدْ كَفَرَ تِلْكَ النِّعْمَةَ. تحفة الأحوذي» كتاب البر والصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» باب ما جاء في المتشبع بما لم يعطه

ومعنى الحديث: من أعطي عطاء، فليكافئ به من أعطاه، إما بالمال إن كان غنيا، أو بالثناء والدعاء إن لم يجد مالا، فذلك رد الجميل بالشكر، ومن كتم العطاء، فكأنما رد بكفران الجميل، أما الذي ليست عنده نعمة، فلا يَظْهر الفضل عليه، ثم هو يتصنع الفضل رياء، فهو كلابس ثوبي زور.

انظر كتاب تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يُعْطَهُ)، وورد فيه؛

(وَمَنْ تَحَلَّى) أَيْ تَزَيَّنَ وَتَلَبَّسَ، (كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ) أَيْ كَمَنْ كَذَبَ كَذِبَيْنِ أَوْ أَظْهَرَ شَيْئَيْنِ كَاذِبَيْنِ قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَتَشَبَّعَ بِمَا لَمْ يُعْطِنِي زَوْجِي، أَيْ أُظْهِرُ الشِّبَعَ، فَأَحَدُ الْكَذِبَيْنِ قَوْلُهَا "أَعْطَانِي زَوْجِي" وَالثَّانِي إِظْهَارُهَا "أَنَّ زَوْجِي يُحِبُّنِي أَشَدَّ مِنْ ضَرَّتِي".

معنى كفر لغويا

ورد في قاموس لسان العرب:

وَأَصْلُ الْكُفْرِ تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ تَغْطِيَةً تَسْتَهْلِكُهُ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أَنْتَ لِي عَدُوٌّ فَقَدْ كَفَرَ أَحَدُهُمَا بِالْإِسْلَامِ، أَرَادَ كُفْرَ نِعْمَتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، فَأَصْبَحُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا فَقَدْ كَفَرَهَا.

قلت: إذا أسلم الرجل طُبِع قلبه على حب إخوانه، فإذا هو أنكر ذلك، فقد غطّى أو ستر قلبه عن أن يدرك تلك النعمة، والكفر بمعنى التغطية والستر، غطاء لا تعرف منه النعمة.

وَحَدِيثُ الْأَنْوَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ الْغَيْثَ فَيُصْبِحُ قَوْمٌ بِهِ كَافِرِينَ؛ يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا. أَيْ كَافِرِينَ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ حَيْثُ يَنْسُبُونَ الْمَطَرَ إِلَى النَّوْءِ دُونَ اللَّهِ.

قلت: هذا هو بعينه كفر نعمة الله سبحانه وتعالى، فمن شدة إنكار هؤلاء هو إنكار فضل الله سبحانه وتعالى الواسع الممتد، فالغيث يروي الإنسان والحيوان، وبه ينبت الكلأ، فتسمن السوائم، فكأن الغيث هو غوث من الجوع والعطش، ومن البؤس إنكار هذا الفضل ونسبته إلى ما دون الله سبحانه وتعالى.

وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ لِكُفْرِهِنَّ، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ يَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، أَيْ: يَجْحَدْنَ إِحْسَانَ أَزْوَاجِهِنَّ.

وَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ فَنِعْمَةٌ كَفَرَهَا، وَالْأَحَادِيثُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ.

قلت: هذا الذي يرغب عن أبيه يدور بداخله من الخواطر المؤذية القدر الذي يدفعه ليعرض عن أبيه، وهذه الخواطر قد تكون هي ما غطت قلبه، وغلبت على محبته لوالده. ورمي السهام هو مهارة لابد للرجل أن يمارسها ليبقي على قدرته وبراعته، فمن تركها، فقد تضعف عنه تلك المهارة، فكأن ترْكها ستر وتغطية لها، أو كأنه كَفَر نعمةَ الرمي.

وَقَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ إِنَّمَا سُمِّيَ الْكَافِرُ كَافِرًا لِأَنَّ الْكُفْرَ غَطَّى قَلْبَهُ كُلَّهُ.

قلت: وقول الليث جاء كمثل ما ورد في قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)" البقرة.

فالكافر قد غطى الكفر قلبه، فلا يجيب نذيرا، فمن يجيب النذير فقد يطمئن بالطاعة والتقوى، وهذا الاطمئنان هو الإيمان الوارد في قوله تعالى: "سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون".

ويستمر هذا المعنى في الآية التالية: فمعنى الفعل ختم كمثل قولهم ختَم البحثَ ونحوَه أي: أتمّه وأنهاه، فمعنى "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" أي: لم تعد تعي ولم تعد تفهم، فلا تدرك حقيقة الأشياء، فالإنسان في حاجة للنظر والانتباه ليدرك الحقيقة، أما الكافرون فلا سبيل لهم للحقيقة فقلوبهم وأسماعهم لا فائدة منها، فهي لا تضيف لهم شيئا، ولا تقدم ولا تؤخر، وكذلك غشاوة الأبصار، فمعنى غشاوة أي غطاء، أي أن أبصارهم لا ترى مما هو أمامها شيئا لأنها لا تستطيع أن تتبين كنهه وحقيقته، وهذا ما يوافق ما قاله الليث.

وَكُلٌّ مَنْ سَتَرَ شَيْئًا، فَقَدَ كَفَرَهَ. وَالْكَافِرُ: الزَّرَّاعُ لِسَتْرِهِ الْبَذْرَ بِالتُّرَابِ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِلزَّرَّاعِ: كَافِرٌ لِأَنَّهُ يَكْفُرُ الْبَذْرَ الْمَبْذُورَ بِتُرَابِ الْأَرْضِ الْمُثَارَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ أَيْ: أَعْجَبَ الزُّرَّاعَ نَبَاتُهُ.

تابع لسان العرب:

قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَ الْكَافِرُ كَافِرًا لِأَنَّهُ سَتَرَ نِعَمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَنِعَمُهُ آيَاتُهُ الدَّالَّةُ عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَالنِّعَمُ الَّتِي سَتَرَهَا الْكَافِرُ هِيَ الْآيَاتُ الَّتِي أَبَانَتْ لِذَوِي التَّمْيِيزِ أَنَّ خَالِقَهَا وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَكَذَلِكَ إِرْسَالُهُ الرُّسُلَ بِالْآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ نِعْمَةٌ مِنْهُ ظَاهِرَةٌ، فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِهَا وَرَدَّهَا فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ أَيْ سَتَرَهَا وَحَجَبَهَا عَنْ نَفْسِهِ.

تعليقات