القائمة الرئيسية

الصفحات

السمع والبصيرة الجزء الخامس الليل ميقات العلم، والنهار ميقات العمل

بسم الله الرحمن الرحيم

السمع والبصيرة الجزء الخامس

الليل ميقات العلم، والنهار ميقات العمل

لقد خلق الله تعالى الخلق بنظام مقدّر، وسنّ لهم سننا كي لا يخالفوها، ومن هذه السنن تتابع الليل والنهار، وما يناسب كل فترة من الأعمال التي تختلف مع الأعمال التي تناسب الفترة المقابلة، ولقد صرّح سبحانه وتعالى وأخبر عن هذه السنة في قوله تعالى في سورة القصص: "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)".

في هذه الآيات ذكر لأنسب المواقيت لكي يأتي الرجل فيها بسلوكيات تتميز بمجهودات عقلية كمثل القراءة والتعلم وسبيل هذه المجهودات هو السمع، والسمع سبيل القراءة، فالكلمات تقرأ لكي يرددها الرجل على سمعه، والسمع سبيل للتعلم، فالرجل يتعلم من معلمه بالسماع.

فلكي يعي الإنسان الكتاب لابد أن يردد كلماته على أذنه، وهذه هي القراءة، وقد تجد أن أنسب ميقات لذلك هو الليل، فالرجل في حاجة إلى السكينة والهدوء حينما يقرأ أو يستمع العلم، والليل هو محل السكون والهدوء، وهو هادئ بظلامه وقلة الحركة فيه.

ويخبر الله تعالى أنه لو شاء جعل اليوم كله ظلاما، ليلا سرمدا دائما إلى يوم القيامة، فمن غيره يأتينا بالنهار ونوره! وأنه تعالى لو شاء جعل اليوم كله نهارا، نهارا سرمدا دائما إلى يوم القيامة، فمن غيره يأتينا بالليل! فالله وحده سبحانه هو القادر على أن ينير الكون، وهو القادر وحده على أن يظلمه، ولا يستطيع غيره أن يقدر على ذلك.

ورغم أن الليل الدائم مضر، وكذلك النهار الدائم، إلا أن لليل ثمرته، وكذلك للنهار ثمرته، فبعدما أخبر تعالى أنه لم يجعل الليل دائما وعظ الخلق على حسن الاستماع فيه بقوله تعالى: "أفلا تسمعون"، أي أفلا تستثمرون وقت الليل الطويل في مدارسة العلم، وتناقل ما يفيد من الأخبار والمواعظ، وتدبر القرآن وتدارسه!!

والعرب كانت أمة أمية يتناقل العلم فيها سماعا، وهذا يقول إن الإشارة في الآية للسماع يقصد بها العلم، والقراءة يمكن وصفها بالسماع كذلك.

فالسكون بالليل يجعله وقتا مهيأً لدراسة العلم، ووضوح الخواطر وشدة الإحساس بها، وهذا العمل لا يحتاج لكثرة حركة ولا انتشار ضياء، والعلم مؤنس من وحشة الليل.

وقد جعل الله تعالى النهار ميقات العمل، فالنهار موضع النشاط سعيا على الرزق أو المصالح، ونوره يبعث النشاط في الإنسان، فالنهار جعل ليبتغي الناس من فضل الله تعالى فيه.

ونور النهار يُمَكِّن من الرؤية المفصلة، فيتمكن الصانع من إدراك ما يعمل به، فيتمكّن من صنعته، وتجد له في عمله انطلاقة دون ريب أو خوف.

وإن النهار هو ميقات ذلك بما يثيره نوره من نشاط وعزم، ولهذا النور سعادة يضعها في القلوب، فالنهار محل العمل، فأي شيء يعطي مثلما يعطي الله!! فقد أنعم الله علينا يحوِّلنا من الليل إلى النهار.

وعلى الإنسان أن يؤمن بما سنه الله في كونه، فيُسَيِّر حاله عليه، فلا يقلب ليله نهارا أو نهاره ليلا، فإن في اتباع تلك السنة اعتدال الحال وفلاح الأمر، وهذه هي السنة التي تعلنها الآية الأخيرة، وتعلن كذلك أن هذا من رحمة الله، فقد جعل الله تعالى الليل سكنا، ولذلك هو ميقات مدارسة العلم، والنهار جعله الله تعالى مبصرا ليبتغي الناس من فضله سبحانه، يقول تعالى في سورة الروم: "وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)".

وختام تلك الآية وهو: "لقوم يسمعون" يعني: يدركون الحكمة من وراء ذلك والتي أنبأتهم بها ظروف الليل والنهار، وأثر تلك الظروف على أبدانهم وأذهانهم، فعلموا أن الليل للسكن والنهار للعمل والسعي، وتستقيم حياتهم برضاهم بما قدّر الله تعالى.

 

 

تعليقات