بسم الله الرحمن الرحيم
التفسير الإشاري؛
تفسير أهل الذكر والمجاهدة...
التفسير الإشاري:
هو تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفيفة تظهر
لأرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة. ويرتكز التفسير الإشاري
على رياضة روحية يأخذ بها الصوفي نفسه حتى يصل إلى درجة تنكشف له فيها من سجف العبارات هذه الإشارات القدسية، وينهل
على قلبه من سحب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف السبحانية. ومن أمثلة كتبه؛
تفسير القرآن العظيم لسهل التستري، حقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السلمي، عرائس
البيان في حقائق القرآن لأبى محمد الشيرازي. نقلا عن؛ بحوث في علوم التفسير، محمد
حسين الذهبي.
هذه الرياضة
الروحية التي ذُكِرت، هي بعينها التي تجعل المسلم من أولي الألباب؛ ونذكر ههنا قولا عن أولي الألباب؛
يقول تعالى: "لَقَدْ كَانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ...". يوسف (111)
اللب: العقل، واللب من كل شيء: خالصه وخياره.
ويرتبط العقل بالصفاء، فهو لا يعمل جيدا إلا إذا كان الرجل صاف البال من الذي يعكر
صفوه، حينها تجده يخرج ما له أن يخرجه من بدائع، ويكون قادرا على اكتساب المعرفة، والذي
يعكر الصفو هو الكره وحب الدنيا والرياء...، وقيل بأن القلب الصافي يُلهَم المعاني
والحكم، كما ورد في قول الشاعر: وصفى قلبي صفاء الملهم. وآخر يقول:
رحاب الهدى يا منار الضياء سمعتك في ساعة من صفاء.
ويقول أهل الصوفية عن الرياضة الروحية التي
تأخذ الإنسان إلى عالم الباطن الذي هو بعينه عالم أولي الألباب، الذين يتمكنون من
رؤية ما لا يراه غيرهم، يقولون:
ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر
يتبعها غالبا كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك
شيء منها والروح من تلك العوالم.
وسبب هذا الكشف؛
أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن، ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح وغلب
سلطانه، وأعان على ذلك الذكر فإنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو وتزايد
حتى يصير شهودا بعد أن كان علما، ويكشف حجاب الحس، ويتم وجود النفس الذي لها من
ذاتها، وهو عين الإدراك فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم اللدنية والفتح الإلهي،
وهذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة، فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك
سواهم، وكذا يدركون كثيرا من الواقعات قبل حدوثها، والعظماء منهم لا يعتبرون هذا
الكشف، ولا يخبرون عن شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه، بل يَعُدُّون ما وقع لهم من ذلك
محنة، ويتعوذون منه إذا هاجمهم، والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا على مثل هذه
المجاهدة، وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ، لكنهم لم يقع لهم بها عناية، وتبعهم
على ذلك الكُمَّل من أهل الطريقة، وهذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا إلا إذا كان ناشئا
عن الاستقامة، لأن الكشف قد يحدث لصاحب الجوع والخلوة، وإن لم يكن هناك استقامة،
كالسحرة والنصارى وغيرهم من المرتاضين.
تعليق على هذا
الكلام:
القول بأن الاهتمام بعالم الباطن يورث الفتح، فلقد نمى الروح على
حساب الحسّ الظاهر، فقد وجدت ما يشابه ذلك، وهو؛ أنه عندما تلغى حاسة يتركز الذهن
في الأخرى، كما عند المكفوفين، وننقل في ذلك عن المتخصصين ما يلي:
يعتمد الكفيف
على حواسه المتبقية في إدراك البيئة التي يعيش فيها، حيث تمثل الحواس القنوات
والأدوات التي يستطيع من خلالها الحصول على المعرفة، كما ان المكفوفين يشتركون مع
غيرهم من المبصرين في بعض الخصائص، إلا أن
بعض الخصائص التي يتميز بها الكفيف من
تأثير كف البصر الذي يعمل على نمو بعض القدرات الأخرى لديهم، وقد شاع الاعتقاد
بخاصية تعويض الحواس في المراحل المبكرة، بمعنى تفوق الكفيف على غيره من المبصرين
في حدة بقيت الحواس، وهذا تعويض له عما فقده، وظل هذا سائدا حتى أثبتت معظم
الدراسات أن التعويض الحسي لا وجود له، وأن الزيادة الملحوظة في حدة الحواس لديه
ترجع إلى استخدامه لحواسه بطريقة أفضل، فهو
يعتمد عليها اعتماد كليا.
قلت؛ إن عدم
انشغال حواسه بالبصر الذي يملأ الذهن بالمحيط، أفرغ ذهنه لبقية حواسه.
وقد يكون هذا
تدليلا على ما يقوله الصوفية عن زيادة الشعور الباطني، ويُقَوِّي هذا التدليل
اعتبارنا أن الإنسان له قلب وعقل ونفس له شعور بهم، وكأنهم حواس باطنية، وإن كنا
لا نراهم فنحن نحسهم، وقد تجد لهم صفات بل وخلق، يقول تعالى: "وَأَسِرُّوا
قَوْلَكُمْ أَو اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُو اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)".
الملك
ومن الأدلة التي
تخبر بتواجد عالم الباطن عالم النفس والقلب والعقل قوله تعالى: "وَإِن
تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ
جَدِيدٍ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ الْأَغْلَالُ
فِي أَعْنَاقِهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(5)"الرعد
والخلق الجديد
الذي يبقى رغم فناء الجسد هو عالم النفس والعقل والقلب، وفناء الجسد لا يعني فناء
هذه الثلاثة وما يخرج منها، فالعجب هو من إنكار تلك الحواس إذ أنها معلنة الوجود بآثارها
لا يمكن إنكارها، والمعتمد كما تخبر الآية الكريمة أن الذي ينكرها هو من ينكر وجود
الله تعالى، إذ أن الله غيبا لا نراه، بل ندرك وجوده، وهو لا يتبع الهدى لكي يصلح
نفسه، فنفسه في الظلام والتخبط، فهو لا يفلح، فكأن الأغلال في عنقه، وكذلك هو لا
يعتد بالشرع القويم، فيتعرض للكوارث الأخلاقية وغيرها من الدواهي التي يهدينا
الشرع لتجنبها، وهو حينما يتعرض لها يهلك نفسه همَّاً وغمَّا وحزنا.
وهذا هو عالم
الباطن الذي يتحدث عنه الصوفية.
وقولهم إن الذكر
هو الغذاء لتنمية الروح: هو قول صحيح، فكل من جربه عن صدق يدري ذلك، لذلك جعل
الذكر شفاء، يقول تعالى: "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا
يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98)"الحجر، فالذكر شفاء من ضيق الصدر، وروى عن
أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي
يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت". صحيح البخاري» كتاب الدعوات» باب فضل
ذكر الله عز وجل
تعليقات
إرسال تعليق