القائمة الرئيسية

الصفحات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

فراسة أولي الألباب

من هم أولو الألباب؟

يقول: "لَقَدْ كَان فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِِّّأُولِي الْأَلْبَابِ...". يوسف (111)

اللب: العقل، واللب من كل شيء: خالصه وخياره. ويرتبط بالصفاء، فهو لا يعمل جيداً إلا إذا كان الرجل صاف البال من الذي يعكر صفوه، ثم تجده يخرج ما له أن يخرجه من بدائع، وتحتاج إلى اكتساب المعرفة، والذي يعكر الصفو هو الكره وحب الدنيا والرياء...، وهنا نذكر ما قد يقال أن الرجل الصافي يُلهَم المعاني والحكم، كما ورد في قول الشاعر: وصف قلبي صفاء الملهم. وأخر يقول: رحاب الهدى يا منار الضياء     سمعتك في ساعة من صفاء .

ويقول أهلاً الصوفية عن الرياضة الروحية التي تأخذ الإنسان إلى عالم الباطن الذي هو بعينه عالم أولى الألباب، الذين يتمكنون من رؤية ما لا يراه غيرهم، يقولون:

ثم إن هذه  المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها والروح من تلك العوالم .

والفِرَاسَةُ هي: المهارة في تعرُّف بواطن الأمور من ظواهرها.

قال ـ صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ" حسنه بعض أهل العلم ، وبلفظ آخر: "احذروا دعوة المسلم وفراسته، فإنه ينظر بنور الله، وينطق بتوفيق الله"، ويرد بلفظ آخر: "اتقوا فراسة العلماء، فإنهم ينظرون بنور الله، إنه شيء يقذفه الله في قلوبهم، وألسنتهم"، يقول الله تعالى: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسمِينَ" سورة الحجر آية 75 ، وقد روى عن بعض أهل العلم في تفسير للمتوسمين، قال: للمتفرسين..

وكذلك يرد عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم". أبي نعيم في الطب بسند حسن، مجمع الزوائد الصفحة أو الرقم: 10/271 ، ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين رضي الله عنه، وقد أخذ بطرف عمامته من ورائه: "واعلم أن الله يحب الناظر الناقد عند مجيء الشبهات." المقاصد الحسنة فيما اشتهر على الألسنة لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي شمس الدين، ج:1 ص:60 .

هذه هي الفراسة التي تُبَيِّن للإنسان ما خفي عنه، قد يظنه العوام علما بالغيب، ولكن المتفرس قد رأى من الإشارات ما كشف له المستور، وذلك من صفاء سريرته وقربه من الله سبحانه وتعالى، كما قلنا فإن من دائرة معاني اللب الصفاء، فهو من كل شيء خالصه وخياره، وقد ذكرنا قوله تعالى: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب"، وقوله تعالى: "وما يذكر إلا أولو الألباب"، وهذا بعينه ما قاله الصوفية بأن المجاهدة والخلوة والذكر تكشف الحجب، فمجاهدة النفس من أسقامها تنتهي بالصفاء، ولن يقدر على الخلوة إلا المتعلق بربه، والذكر كما يقولون هو غذاء القلب، فكما يقول الله تعالى: "وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)"الذاريات

فهي تنفعهم لأنها تعيد إحياء نفوسهم، وتجلِّى النور في صدورهم، فصدورهم ليست فقط صافية، بل إنهم كذلك ينشطون في الخير حبا في الله، فهم يتقدون بنور الذكر، وكم يحبون نوبات خلوتهم للتعبد، تلك التي تغذّي صدورهم، فهم أولي الناس بمكاشفة العبر واستلهام المعاني، وكما ورد في الأحاديث أنهم يتفرسون الأحوال فيتعرفون الأعماق بمجرد إشارات بسيطة، فهم قادرون بنور الله تعالى على إدراك ما غار من الكثير من الأشياء، وفي هذا موافقة لما يقول الصوفية.

ونلاحظ أنهم قالوا إن الأصفياء ـ كما سميناهم نحن مستدلين ـ يمنحون من المواهب الربانية والعلوم اللدنية والفتح الإلهي؛ وفي ذلك إشارة أن الفراسة لا تقف عند كشف المستور، ولكنها تمتد إلى المعارف والعلوم والمواهب كحرفة مثلا، أو فقه في شؤون العامة، وهذا معقول، فإن كان تفرسهم في أحوال الناس مستغربا، فما بالنا فيما هو حولنا من خلق الله وشؤون هذا الخلق ما يمكننا ملاحظته، بل نحن مطالبون بالتعلم عنه!

وهذا بعينه مقصود العلماء من التفسير الإشاري، فهو أشبه بالفراسة، ستجده النفس غريبا حين تسمعه، لكن العلماء سيدركون أن له وجه مع الآية.

فائدة عن علم الغيب؛

يقول تعالى: "قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)"النمل. فهذه الآية صريحة في أن الله وحده هو عالم الغيب، وهناك من الآيات ما يوضح لنا معالم أخرى، يقول تعالى: "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28) "الجن

والآيات تخبر أن الله وحده هو عالم الغيب، إلا أنه قد يوحي إلى رسله من أمور الغيب، وذلك مما يأمرهم أن يبلغوه للناس، أو أن يصلحوا بينهم بهذا العلم، ولمحاباة الله لهم، فإن أعمالهم وكل شيء في حياتهم الله محيط به، بل إن حياتهم هي عند الله في أرقام، وذلك مما هو أقل أن يقال عن قوله تعالى: " فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)  لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28). 

والرسل لا يعلمون إلا ما يبلغهم الله، فهم لا يعلمون الغيب، يقول تعالى: "قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188("الأعراف. وهذه الآية صريحة في أن المرسلين لا يعلمون الغيب، وللتوفيق بين الآيات نقول؛ أنهم صدقا لا يعلمون الغيب، ولكنهم يعلمون ما يوحيه الله لهم من أمور غيبية، وذلك شأنٌ بينهم وبين الله تعالى.

ربط بين المرسلين وأولي الألباب السابق ذكرهم:

روي عن أبي هريرة، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوة." صحيح مسلم، كتاب الرؤيا، رقم الحديث 2263

يدلنا هذا الحديث على أن الصالحين قد ينالون أحد أجزاء النبوة، كالرؤيا الصالحة، وحين ذلك نقول إنهم قد يرتفعون بتقربهم لربهم إلى درجات أخرى، ما قد يكون منها الفراسة والإلهام.

تعليقات

جدول المحتويات