بسم الله الرحمن الرحيم
المحكم والمتشابه
الجزء الأول
يقول تعالى في
سورة آل عمران: " هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ
مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا
اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ
عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)".
أولا: تعريف المحكم
والمتشابه
والمحكم الذي تظهر
الدقة في صياغته واضحة، فحينها لا يوجد سبيل للاختلاف، فمعنى أحكمَ الشَّيءَ أو
الأمرَ: أتقنه وضبطه، فمعنى المحكم أي المضبوط المتقن الصياغة، فيعلمه الناس، ولا
يختلفون عليه.
روى ابن كثير عن
ابن عباس أنه قال: المحكمات ناسخُه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمر به
ويعمل به.
ولكن ماذا عن
قوله أم الكتاب؟ أورد ذلك ابن كثير فقال: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه، وقال
عن معنى (وأخر متشابهات) أي: تحتمل دلالتها موافقة
المحكم، وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا
من حيث المراد.
قلت: هذا هو
المعنى الواضح، ولكن الفكرة في رأى ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن المحكم هو كل ما
يدخل في حياة الناس، وما تجب عليهم معرفته، فهو ذو معنى واحد، لا يمكن أن يخرج عنه
تأويل، وذلك لكي تستقيم حياة الناس، وتتوحد حياتهم، بينما المتشابه فليس به علامة
أو دليل، ويخفى على عوام الناس معناه، فكأنه كالأرض التيه لا يهتدي فيها المسافر،
ولكن قد يعرفه أوسعهم علما، الذي يستطيع أن يخرج نفسه وغيره من المعضلات بعلمه هذه
المتشابهات، فقد تكون المعرفة ههنا حرجة حساسة.
وههنا نسأل
السؤال؛ لماذا لم يصغ المولى ـ عز وجل ـ آيات القرآن كلها محكمة؟ الإجابة؛ الآيات
المتشابهة هي ذات معنى عميق، وقد يختلط الفهم على من يتناولها، فعلى هذا المتناول
ألا يفتتن بهذا الفهم، بل عليه أن يصبر حتى يتضح المعنى الصحيح، فهو لا يغتر
بفهمه، ولا يسقط في العصيان بسبب ما وعاه باطلا، وكذلك فما تتناوله الآيات من
مواضيع قد يقع في إنكاره بعض من لا يدركون الأصول، وبعض الذين لا يدركون ما يدور
في هذه الدنيا من أحداث، وهنا يتنوع حوار القرآن فيحادث العلماء بأمور هم أولى
الناس بتصديقها، وبهذا العلم المخصوص الذي أدركه العلماء يستنير من يقع في
المشاكل، وقد تمثل تلك المعرفة حلا آمنا يفصل بين الناس في قضاياهم.
فهذه الآيات لا
يفهمها عوام الناس، وذلك لهم رحمة، وهي ابتلاء الصالحين، فهم المقبلون على
الانتفاع والعمل بما في هذا الباب، "ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها"،
ويحضرنا في هذا الموضع الأثر الذي روي عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ قال:
"حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ". فتح
الباري شرح صحيح البخاري» كتاب العلم» باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا
يفهموا
فتشابه اللفظ وصياغته مع أكثر من معنى يحدث خلطا في الفهم، فقد يفهم معنى فاسد، لا يرجع القول إلى مثل هذا الفساد إلا أصحاب الميل إلى الباطل، فكأنهم يفرحون بزيغهم، فإذا وجدوا في كتاب الله ما وافقهم، وهم على الظن الباطل، إذا هم يظنون أنهم ارتفعوا إلى السماء، وبلغوا المنتهى، ظنا بأنفسهم العلم ومكانة الإلهام، زيادة على فرحتهم بفهمهم المغلوط، وهؤلاء هم الذين في قلوبهم زيغ عن الحق أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل، فنعوذ بالله من شرور ظنون النفس واستثمار الشيطان فيها بالوسوسة.
تابع الحديث عن المحكم والمتشابه
ومعنى أم الكتاب أي أصله وعماده، والآيات التي وصفت بأنها أم الكتاب
وصفت كذلك أنها محكمة، فلا يختلط معناها عند المتأمل لها، ومعنى متشابهات أي قد
يختلط معناها عند المتأمل، وكأن ذلك الوصف يشبه وصف الطريق الذي يعرفه الرجل مادام
يميز علاماته، فلا يضل عن طريقه هذا، بينما الطريق الذي تتشابه علاماته قد يضل فيه
الرجل، ولا يدرك فيه أين هو ولا يدرك أي اتجاه يأخذ!!
وكلمة أُمّ هي
من مادة أمم، والْأَمُّ، بِالْفَتْحِ: الْقَصْدُ، وَيَمَّمْتُهُ: قَصَدْتُهُ، وهذه المعاني تدور حول الهداية والرشاد،
فمعنى القصد إدراك الجهة والطريق، ما يقود للنجاة والفوز، فالآيات التي هي أم
الكتاب واضحة يهتدي بها ويسترشد من يدركها، هداية كهداية المرتحل الذي يعرف
الطريق.
مثال لمن يزيغ في
المتشابه:
من الذين تزيغ
قلوبهم الذين يجادلون بغير بينة في المعاني الواضحة للكتاب، فإذا ذكرت قول الله
تعالى: "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
(47)" الذاريات. فإذا أثبتَّ له أن السماء تتسع كما
اكتشف العلماء، قال بلسان فقيه الكلام؛ ولكن يبقى أن حدود السماء لا يدرونها، فكيف
إذاً هي تتسع! يقصد أن الاتساع يكون فيما بين الحدود، ونحن لم نصل لتحديد السماء،
هو لا يدري أن العرب تسمي كل ما علاك سماء، فمادامت النجوم وما سواها تتباعد فإن
أطراف السماء تتسع المسافات بينها، فالنجوم هي من السماء، بل هي جزء منها، فهي
فوقنا، بل هي سماؤنا، وهنا يلبس صاحبنا على الناس الحقائق، ولهذا فقد أورد الإمام
أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قرأ
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن
أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ" إلى قوله: "أولو
الألباب"، فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم." مسند أحمد بن حنبل» مُسْنَدُ
الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ ...» سادس عشر الأنصار» حَدِيثُ
السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا 23658، سنن أبي داود» كتاب السنة»
باب النهي عن الجدال واتباع المتشابه من القرآن 4598
فالمثال الذي قلناه ينطبق على المجادلين في
الآيات الوارد ذكرهم في الحديث.
ولقد ظهر في زماننا من يتحدث عن الآية التي تقول باتساع السماء، فلقد
وضح العالم الجليل زغلول النجار هذه الآية وقال:
هناك ظاهرة
تستخدم لرصد تقارب وتباعد النجوم؛ فإذا كان النجم يتحرك مُقترِباً، فإن الموجات
الضوئية تتميز بالطيف الأزرق، وإذا كان النجم يتحرك مُبتعِداً، فإن الموجات
الضوئية تتميز بالطيف الأحمر، وبعد دراسة المجرات والنجوم من خلال هذه الظاهرة
تبين أن هذه الأجرام تتباعد عن بعضها البعض، وبعد مجاهدة ثبتت هذه الحقيقة، وثبت
توسع الكون المدرك.
ولكن قد يكون معنى حدود السماء وارد في موضع آخر يقول فيه تعالى: "يَا
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)"
الرحمن، ومحل الشاهد كلمة أقطار السماوات والأرض، والتي قد تقول بما في علم الله
تعالى من حدود السماوات والأرض أو منتهى الكون، وهذه الحدود هي التي تتسع فيها
السماء.

تعليقات
إرسال تعليق