القائمة الرئيسية

الصفحات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير الموضوعي

وهو ذو معنًى بالغ الأهمية إذ يعرفه العلماء بأنه: تناول جانب واحد من جوانب القرآن الكريم بالدراسة والبحث، وهذا المعنى هو الذي جاء في قوله تعالى: "وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)". الحجر

قال ابن عاشور في تفسيره: ولفظ "المقتسمين" افتعال من قَسم إذا جَعل شيئاً أقساماً. وصيغة الافتعال هنا تقتضي تكلف الفعل. وقال: و"عضين" جمع عضة، والعضة: الجزء والقطعة من الشيء.

وأقول إن هذه الآيات مختصة بتفسير القرآن بالقرآن، فكأن فهم القرآن بعضه ببعض هو إلهام يسقطه الله تعالى على أناس من عباده، فقد ابتدأت الآيات بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نذير مبين، ثم يرد تشبيه الإنذار البيِّن على لسانه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحال هؤلاء المقتسمين، فكلمة المقتسمين تعني الذين يبذلون جهدهم في تقسيم القرآن، وإن في هذا لدلالة واضحة على أنهم يستخدمون آيات الكتاب مع آيات أخرى تقاربت معانيها للوصول لفهم واضح، فيستعينون بهذه على فهم هذه، فيكَوِّنُون صورة واسعة بجمع الآيات التي قد تكون متناثرة في جنبات الكتاب فيجعلونها موضوعا واحدا، وهذا هو معنى كلمة عضين التي مفردها عضة، والعِضَةُ: قطعة، جُزء تامّ من مجموعة كالعُضْو من الجسد، فهم يخرجون من مجموع القرآن بجزء متكامل، ويربطون بين الآيات، ولما هم عليه من علم مخصوص شُبِّه حالهم بحال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كونه نذير يوحى إليه، فهم كذلك مأمورون بالدعوة، لما خصوا به من فهم الكتاب.

ولكن التهديد الوارد في الآيات لهؤلاء المقتسمين، وذلك في قوله تعالى: "فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون"، هذا التهديد قد يوحي بأنهم على حالٍ من العصيان والسوء، ولكن الأصل الذي جاء التهديد معتمدا عليه أن العلم للإبلاغ، وهذا بيِّن في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يرويه ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ جِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ". فوائد ابن حيان» من كتم علما يعلمه جيء به يوم القيامة ملجما بلجام، رقم الحديث: 50. وفي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَة". المعجم الأوسط للطبراني» بَابُ الْحَاءِ» مَنِ اسْمُهُ حَفْصٌ، وعن حساب أهل العلم ورد ما روي عن ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ." سنن الترمذي» كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص

وعن الفهم الذي يلهمه الله الرجل في القرآن ورد: عن الشعبي حدثنا أبو جحيفة: قال: قلت لعلي: يا أمير المؤمنين! هل عندكم سوداء في بيضاء ليس في كتاب الله. قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما علمته إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في الصحيفة. قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مؤمن بكافر. سنن الترمذي» كتاب الديات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» باب ما جاء لا يقتل مسلم بكافر. ومحل شاهدنا قوله ـ رضى الله عنه: إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، ولعمق هذا الفهم وما له من أثر صار أصلا جديدا لم يكن موجودا، ولكنه ينبع من القرآن.

ردود على ما ورد بخلاف ذلك؛

وقد أورد الطبري في ذلك كلاما إذ يقول: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعلم قومه الذين عضَّوا القرآن ففرقوه، أنه نذير لهم من سخط الله تعالى وعقوبته، أن يَحُلّ بهم على كفرهم ربهم، وتكذيبهم نبيهم، ما حلّ بالمقتسمين من قبلهم ومنهم، وجائز أن يكون عني بالمقتسمين: أهل الكتابين: التوراة والإنجيل، لأنهم اقتسموا كتاب الله، فأقرّت اليهود ببعض التوراة وكذبت ببعضها، وكذبت بالإنجيل والفرقان، وأقرت النصارى ببعض الإنجيل وكذبت ببعضه وبالفرقان. وجائز أن يكون عُنِي بذلك: المشركون من قريش، لأنهم اقتسموا القرآن، فسماه بعضهم شعرا، وبعض كهانة، وبعض أساطير الأوّلين. وجائز أن يكون عُنِيَ به الفريقان، وممكن أن يكون عني به المقتسمون على صالح من قومه.

ثم قال الطبري: فإذ لم يكن في التنـزيل دلالة على أنه عُني به أحد الفرق الثلاثة دون الآخرين، ولا في خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في فطرة عقل، وكان ظاهر الآية محتملا ما وصفت، وجب أن يكون مقتضيا بأن كلّ من اقتسم كتابا لله بتكذيب بعض وتصديق بعض، واقتسم على معصية الله ممن حلّ به عاجل نقمة الله في الدار الدنيا قبل نـزول هذه الآية، فداخل في ذلك لأنهم لأشكالهم من أهل الكفر بالله، كانوا عبرة، وللمتعظين بهم منهم عِظَة.

قال الطبري؛ فإذ لم يكن في التنـزيل دلالة على أنه عُني به أحد الفرق الثلاثة دون الآخرين، ولا في خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في فطرة عقل، وكان ظاهر الآية محتملا ما وصفت، وجب أن يكون مقتضيا ....

الإمام الطبري لم توافق كلماته ما ورد في الآية وتلك المقولة الأخيرة تقول بأنه لم يجد التفسير الواضح للآية.

وكلمة "عضين" ليست من عضّ، بل هي جمع عضة، وقد ينفي ذكر القرآن حصول ذكر أهل الكتاب، وعلى هذا قد يخص الذكر ههنا من أنزل عليهم القرآن، والمشركون لم يقتسموا القرآن بل كذبوا به جملة.

بل إن فطرة العقل التي يقول بها الطبري حاصلة في كلامنا؛ فلقد ظهر ما يسمى تفسير القرآن بالقرآن وظهر التفسير الموضوعي، وهذا النوع من التفاسير يوافق معنى كلمة المقتسمين، وكذلك غرابة التهديد الواردة في الآية تجاه المقتسمين هذا التهديد مماثل لما أوردته الأحاديث النبوية عن حساب أهل العلم، وهذه الأحاديث تزيل الغرابة.

أورد أهل الصوفية كلاما عن أصحاب الخواطر؛ وقالوا إن الخاطر هو خطاب يرد على الضمائر، ثم أنه قد يكون بإلقاء ملك، وهذا هو الإلهام، وقد يكون من الله، وهذا هو الخاطر الحق، وقالوا عن علامة الإلهام موافقة العلم، وهذا الكلام في صلب ما نتحدث عنه، إذ أن الإنزال على المقتسمين يكون بالإلهام أو بالخاطر الحق.

 

تعليقات

جدول المحتويات