بسم الله الرحمن
الرحيم
المحكم
والمتشابه: الجزء الثاني
أقوال وردت عن
المحكم والمتشابه:
يقول تعالى في
سورة آل عمران: " هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ
مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا
اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ
عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)".
أورد ابن كثير في
تفسيره: وأحسن ما قيل فيه الذي قدمناه، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار،
رحمه الله، حيث قال: "منه آيات محكمات هن أم الكتاب" فيهن حجة الرب،
وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه.
قال:
والمتشابهات في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد، كما
ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يُصرفن إلى الباطل، ولا يُحرفن عن الحق.
وقد أخبرنا
بمثال عن الزيغ في تأويل الآيات التي قد تحتمل أوجه، ولكن يبقى معنى تلك الآيات
المتشابهات لمن علم الحقيقة على أصلها واضحا، وذلك الوارد في قوله تعالى:
"والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، وقد أوردنا مثل
هذا الكلام عندما توقفنا عند قوله تعالى: "ولنبينه لقوم يعلمون"،
في الحديث عن "القرآن لمن يعلم".
وقد قال محمد
ابن إسحاق ابن يسار هذا القول عن المحكم، ونحن هنا نضرب له مثالين؛
وأولهما قوله
تعالى: "أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۗ
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ ۚ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا
يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ ۗ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا
لَهُ مِنْ هَادٍ (33)". الرعد
وهذه محكمة،
فحجة الله عليهم فيها واضحة، فهؤلاء الشركاء ليست لهم أسماء استحقوها لذاتهم أو
لأعمالهم، وذلك قوله تعالى: "قل سموهم"، ولكن الله له الأسماء الحسنى،
فلا وجه للشراكة إذاً، إذ أن هؤلاء الشركاء ليست بهم أي صفة للربوبية أو الإلهية؛
كالخلق والرحمة والعلم والقدرة ...، وهذه أمثلة الأسماء المعنية في قوله تعالى: قل
سموهم.
ويحتج الله
تعالى عليهم، وينفي سبحانه وتعالى أن له شركاء بحجتين اثنتين؛
أولهما؛ أن
هؤلاء الذين قالوا عنهم أنهم شركاء لم يخلقوا شيئا في الأرض، فالله سبحانه وتعالى
هو المحيط، وهو ينفي وجود شركاء خلقوا كمثل خلقه، ونحن نشهد بذلك فنحن لم نعهد
خالقا غير الله سبحانه وتعالى.
وثانيتهما؛ أنهم
لا يملكون حجة بَيِّنة لشركهم، بل قد تجد حججهم معقدة وغير واضحة، وهذا هو المراد
من قوله تعالى: "أم بظاهر من القول".
والمثال الثاني
قوله تعالى: "قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ
الْغَنِيُّ ۖ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنْ عِندَكُم
مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا ۚ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)".
يونس
وينفي الله
سبحانه وتعالى حاجته إلى الولد، فهو سبحانه الغني، فالرجل في حاجة لولده، فإن كان
راعيا يعينه على الرعي أو يحل محله، وكذلك الزارع والصانع، ولقد افْتُتِن من ادعوا
أن لله ولدا بسعة سلطانه، إلا أن هذا الادعاء يجوز في شأن الخلق، ولا يجوز في شأن
خالق الخلق.
ويقول تعالى في
هذه الآية: " سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ الْغَنِيُّ ۖ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ"، فمعنى أنه سبحانه له ما في السماوات وما في الأرض أي
أن ذلك ملكه، وأن هذا الملك خاصٌّ بالله سبحانه، فلا يتولاه غيره.
وههنا قد احتج
الله سبحانه وتعالى عليهم أنهم لا يدركون ما يقولون، فليست لديهم حجة أو برهان على
أنه تعالى له ولد، سبحانه عما يقولون وتعالى، فهم يقولون على الله ما لا يعلمون،
فإذا أخْبَتَ القلب لهذه الحجة الربانية، خرج من زيغ الشيطان الذي أوقعه فيه
بضلاله عن طريق الحق.
وننتقل إلى قول
ابن كثير عن قوله تعالى: "ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله":
ولهذا قال
تعالى: "فأما الذين في قلوبهم زيغ" أي: ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل
"فيتبعون ما تشابه منه" أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يُمْكِنُهم
أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما
المحكم فلا نصيب لهم فيه، لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال: "ابتغاء
الفتنة" أي: الإضلال لأتباعهم، إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن،
وهذا حجة عليهم لا لهم.
ويستكمل ابن
كثير: وقوله: "وابتغاء تأويله" أي: تحريفه على ما يريدون، وقال مقاتل
والسدي: يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن.
عاقبة: آخِر
كُلّ شَيء، نَتيجة، خاتِمة، نِهاية.
والذي قاله مقاتل والسدى هو الصحيح، فمعنى تأويل أي مرجع، ومرجع
بمعنى عاقبة، فمعنى آل الشيء يؤول أولا ومآلا: رجع. أي ما يرجع إليه الدين، ومرجع
الدين يتبدى للناس كمثل ما يعلمون من رؤاهم بعيونهم حين يأتي يوم القيامة، أي أنهم
يدركون الحق في الدين المنزل ويعلمون أنه حق اليقين يوم القيامة، ففيها يظهر الحق الذي
جاء به التنزيل بكل ما ورد فيه.
وهذا الكلام له وجه يوافق كون الدين طريق يرجع بالناس إلى يوم
القيامة، فهو طريق الهداية الذي جاء به النبيون ـ عليهم الصلاة والسلام، فمن اتبعه
فهو على الطريق الصحيح المستقيم، لا يضل، فإن ضلّ هلك، يقول تعالى: " وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ
ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)" الأنعام، وقد يدرك الرجل
عاقبة هذا الطريق وهدايته ورشاده علما وعاطفة في الدنيا، ثم هو يرى ذلك يوم
القيامة.
وهذا ما ورد في قوله تعالى في الفاتحة: "اهدن الصراط
المستقيم"، والصراط أي الطريق، وهو الدين، فمن اتبعه رجع به إلى الجنة، ومن
اتبع الشيطان، وخالف الإنذار الوارد فيما جاء به الدين المنزَّل، كانت عاقبته
النار.
وكذلك الحال في الدنيا، فمن ضل عن الدين، وكفر بأنعم الله، ولم يشكر
الله، وسعى بالفساد والإفساد، كانت له عاقبة السوء في الدنيا قبل الآخرة، ومثال تلك
الخسارة الرجل صاحب الجنتين؛ لما أنعم الله عليه أنكر الآخرة، فدمر الله جنتيه،
والقصة في سورة الكهف، ومن الأمثلة الأخرى لسوء العاقبة باتباع طريق المخالفة ما
يرد عن الشاعر الحكيم أحمد شوقي؛
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فالفساد وضياع
الأخلاق مهلكة الأمم.
فالله يعد
للمخالفين أمرَه المهالك في الدنيا والآخرة، ولا يعلم عاقبة هذه المخالفة إلا الله،
وذلك لأنه وحده هو عالم الغيب، يصيب المخالفين بأعمالهم، وهذا في علمه، كما أُهْلِكَت
الجنتان، أو كالزاني عندما يحتاط من الأمراض، تجده رغم احتياطه وقد أصابه المرض.
أما عن الآخرة: فلا
يدري أحد كيف هي الجنة، ولا كيف هي النار، فهاتان هما عاقبة الإنسان، فإن عمل
صالحا كانت له الجنة جزاء متفقا وعمله، ومن عمل سوءا كانت له النار جزاء متفقا
وعمله.
ولكل هذا فعلم
التأويل ليس سهلا يسيرا أبدا، إذ أنه لا يتوقف عند الكلمات، بل يمتد إلى الحقائق
التي يعلم مداها الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: "وما يعلم تأويله إلا
الله"، وهذه الكلمات من الآية تدل على صحة ما قاله مقاتل والسدى الذي نقله
ابن كثير: "وقوله: "وابتغاء تأويله" أي: تحريفه على ما يريدون،
وقال مقاتل والسدي: يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن."
والضلال في
التأويل إنما هو من القلوب وزيغها من كبر أو حب منطق مجرد ليستعلي به بين الناس.
تعليقات
إرسال تعليق