القائمة الرئيسية

الصفحات

كلمة عن الحدود

ومن أمثلة حكمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما جاء في الحدود، وذلك كمثال لتفسير السنة للقرآن وقد أوردنا ذلك في التفسير الذي يعلمه العلماء؛

تعالوا نتعرف على الستر على أصحاب المعاصي ما هو؟ وكيف وضحه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للدلالة على التراحم الذي جاء به الدين والسماحة في الدنيا والآخرة، وأن هذا الدين لا يضع السيف على رقاب الناس منتظرا خطأهم؛

إن الفقهاء لم يتفقوا على القول باستحباب الستر وحسب، بل منهم من قال بوجوبه، هذا إن لم يكن الوجوب قول أكثرهم، جاء في الموسوعة الفقهية: وَمِنَ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا: أَنَّ السَّتْرَ عَلَى الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ لِمَنْ لَيْسَ مَعْرُوفًا بِالأْذَى وَالْفَسَادِ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَال فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَهَذَا السَّتْرُ فِي غَيْرِ الْمُشْتَهِرِينَ، وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِذَا رَأَيْتَ إِنْسَانًا عَلَى مَعْصِيَةٍ فَعِظْهُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَلاَ تَفْضَحْهُ. الموسوعة الفقهية - ج 12، تشبه ـ تعليل، ص42، الطبعة الثانية 1408 ھ، 1988 م، إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويت.      

والستر ورد صراحةً فيما رواه عبادة بن الصامت قال: كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مجلس فقال: "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئا من ذلك، فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئا من ذلك، فستره الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه." صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها. ولقد ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث الستر، بل وأخبر أن الذي ستر الله عليه ولم يُحَدّ فله توبة.

وهذا يتبدى واضحا فيما رُوِى عن أَبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: "جَاءَ الْأَسْلَمِيُّ إِلَى نَبِيَّ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ فِي الْخَامِسَةِ، فَقَالَ: أَنِكْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟ قَالَ: نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ حَلَالًا، قَالَ: فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ." سنن أبي داود رقم الحديث 3845 اللفظ له، صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب لا يرجم المجنون والمجنونة.

روي عن عبد الله بن عباس أنَّ النبيَّ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ـ لمَّا أتاهُ ماعزُ بنُ مالكٍ قال: لعلَّكَ قبَّلتَ، أو غمزتَ، أو نظرتَ. قال: لا. قال رسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أَنِكْتَهَا لا يُكَنِّي. قال: نعم. قال: فعندَ ذلكَ أمرَ برَجْمِه". أخرجه البخاري (6824) باختلاف يسير، وأحمد (2433) واللفظ له

لو كانت الحدود هي السيوف في الإسلام، فلما أعرض عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم؟ لما جادله؟ وكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أراد الستر عليه، خاصة وأن الرجل جاء نادما.

وهذا ما نعلمه من الحياة، فقد يقع الإنسان في الكبيرة، بتغرير الغَرور وهو الشيطان، وقد يقع الرجل في الكبيرة بما تسوِّل له نفسه وبما تهيئ له، ولكن الخير قد يكون حاضرا في قلبه، فقد يعود إلى الله.

وعدم وجوب الستر على المشتهر بالأذى هو ذو وجه كذلك؛ فعند إقامة الحدّ يحذر هذا المجرم، ولا يعود لما حرّمه الله تعالى، ويحذر كذلك من يفكر بالجرم، وكذلك نقي جماعة المسلمين من نشر الشر.

والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولى الناس بهذه المعرفة، بل وأولى بما لا نعلمه، ومن تلك الحدود حد الزنى الذي قد يقع الإنسان فيه متى تهيأت الأحوال، كأن ينفرد بامرأة، فقد رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَخْلُونَّ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا، فَإِنَّ ثَالِثْهُمَا الشَّيْطَان." ذم الهوى لابن الجوزي » كِتَابُ ذَمِّ الْهَوَى » الْبَابُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ » فِي ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْخُلْوَةِ بِالأَجْنَبِيَةِ ... 

فالإنسان قد يقع في الخطيئة، فإن حُدَّ فذلك كفارة له، وإن ستر الله عليه فله التوبة، وجعلت الحدود طهارة ورحمة لمرتكب ما يوجبها، وليست هي مجرد عقاب فيه من العنف ما فيه.  

والذي ذكرناه هو ما يدل عليه ما ورد في الموسوعة الفقهية حيث يرد؛

المقرر شرعا: أن الحدود التي هي حق الله تعالى تسقط بالشبهات، فإذا أقيمت بينة تامة على فعل كالزنى مثلا، وعارضتها بينة و لو أقل منها بعدم الفعل قدمت، و ذلك استنادا إلى قوله ـ صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم"، بل قال الحنفية: لو أقيمت عليه بينة بما يوجب الحد، وادعى شبهة من غير بينة، سقط الحد.

ثم ورد في الهامش: حديث "ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" أخرجه أبو حنيفة في مسنده (149 ط الأصيل). قال السخاوى ـ و عزاه إلى مسند أبى حنيفة و ابن عدى ـ وقال: قال شيخنا وفي سنده من لا يعرف (المقاصد الحسنة رقم 46 ط دار الكتب العلمية). الموسوعة المشار إليها ص 189.

فرغم المقالة التي وردت في الحديث إلا أن العلماء استناروا به، ولا عجب فقد ساندت الأدلة بعضها.

وعن هذا الحد يقول تعالى في سورة النور: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)". فذكر تعالى الزاني والزانية بالتعريف بأل التي تدخل على الاسم فتزيل اللبس وتعرِّف القصد، وهذا يدل على أنهما استحقا هذا الوصف، فكأن هذه إشارة إلى المعروف بذلك، وإشارة إلى الستر الواجب عند العلماء الذين نقلنا عنهم على من لم يعتد عليه ولم يشتهر به، وإن كان مشتهرا فإن الآية قد ضمته بسبب التعريف الوارد في قوله تعالى: "والزاني والزانية فاجلدوا ..." الآية.

وقد وردت الحدود في القرآن، وها هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوضح لنا بما أراه الله كيف نطبقها، وماهيتها، ما يتطابق مع غرضها، ويفهمنا أنها ليست مجرد عقاب، بل كفارة كذلك.

وقد وضحنا هذا المثال للتدليل على تفسير السنة للقرآن، وأنها لا غناء عنها أبدا، وأنها تعمل أساسية بجواره، وهي ليست مجرد تذييل له لاحتوائه كل شيء، بل هي أصيلة بجواره، ولهذا رُوِيَ عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه". سنن أبي داود » كتاب السنة » باب في لزوم السنة

هذا عن التفسير بالمأثور، وخيره ما كان بسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم.

تعليقات

جدول المحتويات