بسم الله الرحمن
الرحيم
الكهانة
الجزء الأول:
العلم بالله والعلم بالغيب
يقول تعالى في
آية سورة آل عمران متحدثا عن القرآن: "... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا
اللَّهُ ... (7)"
ويخبر فيها
تعالى أنه هو وحده من يعلم تأويل القرآن، وتأويل بمعنى مرجع وعاقبة، ولكننا هنا
نتساءل؛
إن كان إدراك
تأويل القرآن مقتصر على الله، فهل هناك أي شيء من دون ذلك قد يكون للعباد؟
نعم؛ هناك ما
يكرم الله به العباد، فيكشف لهم من المستور بإذنه، وهذا العلم الذي يكشفه الله
للعبد يقع في قلبه وعقله ويحسن العبد إدراكه.
وإن خير مثال
للمكاشفات التي يعطيها الله الصالحين هو ما قاله سيدنا يعقوب ـ عليه السلام ـ في سورة
يوسف، يقول تعالى: "قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ
يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا
تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ
الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)"، فهناك قناعة بداخله ـ
عليه السلام ـ أن الله سبحانه وتعالى سيرد
عليه أولاده، وعندما لاموه أخبرهم أنه يشتكى إلى الله السميع العليم حاله تضرعا
يرجو منه رحمته وفضله وكشف ما به، وهو يعلم من الله أنه سيردهم عليه في يوم آتٍ، وهذا هو العلم بالله، أو مكاشفة
المستور وإدراك إلام تؤول الأمور ما يورثه الإيمان والتفقه
في هذا الدين، وكأن أحمد شوقي قد علم ذلك فقال :
بِكَ
يا ابنَ عَبدِ اللهِ قامَت سَـــــمحَةٌ" "بِالحَقِّ مِن مَلَلِ الهُدى
غَرّاءُ
بُنِيَت
عَلى التَوحيدِ وَهيَ حَقــــيقَةٌ" "نادى بِـــها سُقراطُ وَالقُدَماءُ
وَجَدَ
الزُعافَ مِنَ السُمومِ لِأَجــلِها" "كَــالشّهـــتدِ ثُمَّ تَتابَعَ
الشُهَداءُ
وَمَشى
عَلى وَجهِ الزَمانِ بِنورِهــا" "كُهّــانُ وادي النيلِ وَالعُرَفاءُ
ومحل شاهدنا هو
البيت الأخير، فبنزول ديانة الإسلام أورث الذين آمنوا من هؤلاء العلم بالله، فلهم
فراسة وفقه بالمقادير، قد يظن البعض أنهم قد علموا الغيب، وإنما أوتوا علمهم مما
أنزل الله، فإذا عرفت حججهم بطل العجب من أقوالهم، فهنا تختلف التسميتان الكهان والعرفاء،
من السوء إلى الإحسان، وإن شئت سمهم العلماء بما عند الله، أو الذين يعلمون من الله، كما قال سيدنا يعقوب ـ عليه السلام: "وأعلم من الله ما لا تعلمون".
يقول الله تعالى
في سورة الجن: "قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ
لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ
أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا
رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا
(28)"، فعلم الغيب هو مخصوص بالله تعالى، ولا يمكن للخلق أن يعلموه، وقد يبلغ
الله رسله بشيء من علم الغيب، وقد يكون من المستحيل على البشر إدراك الغيب كمثل تواريخ
وقوع الأحداث المستقبلية وأماكنها، وتفصيلات الأحداث الواقعية...
والعلماء
العاملون في العلوم يعملون على فهم الظواهر التي هي سنن ثابتة متكررة الحدوث بين
الناس أو في الطبيعة، ولا يمكن أن يدرك العالم شيء من علم الغيب، فهو لا يدرك تفصيلات
الحياة البسيطة، أو ما حدث بين الناس البسطاء فيما مضى أو ما سيحدث بينهم فيما هو
آت.
يقول تعالى في
سورة الأعراف: "قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا
شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ
وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (188)"، فالذي يعلم الغيب سيعلم موعد ومكان الضرر الذي سيقع عليه،
فيتجنبه، وكذلك أيضا بالنسبة للخير، فيأتيه، إلا أن علم الغيب لا يتصف به الخلق،
وإن كانوا من الأنبياء المرسلين، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد يوحي لهم شيئا من
الغيب ما يفيدهم في شأن رسالتهم كما تخبر آيات سورة الجن السابقة.
تعليقات
إرسال تعليق